فيضٌ من القلب
يبحث الإنسان بين البشر عمن يستمع لهمومه أو أحزانه أو أفراحه، فيريح قلبه من بعد وجع شديد، وينشرح صدره من بعد ضيق مرير، والسعيد هو من يجد إنسانا، في هذه الحياة الدنيا التي باتت الأنانية والانطواء سبيلا للعيش فيها، يستمع إليه، ويأبه لآلامه أو أحزانه أو مشاعره أو أفراحه، أما التعاسة فهي من نصيب من أدار الناس له ظهورهم، غير مكترثين, ولا آبهين, لشيء أرقه أو أزعج ليله ونهاره، أو أفرح قلبه.
((الهموم إذا لم تجد صاحبا يخفف من آلامها، والزفرات إن لم تصادف مواسيا يبرد من حرها، فأنى لصاحب هذه الهموم والزفرات أن يتحمل؟ وأنى للتحمل والهدوء أن يجد وسيلة إلى القلب؟ لا بد للأفراح لكي تصبح مشرقة، ولا بد للأحزان لكي تكون متحملة من صاحب وشريك فيهما، وإلا فما أحرى بالهموم التي تحيط بها الوحشة والانفراد أن تصبح سببا للهياج والجنون)). [ممو زين, ترجمة: محمد سعيد البوطي - حفظه الله-]
إن الإنسان بحاجة إلى من يستمع إليه، ويهتم لشأنه.
فإن استمع أحد ما من المحسنين؛ أنس به واستراح له قلبه، وإذا كان من المقربين إلى قلبه ازداد منه قربا، وارتفع عنده شأنه، لكن إن أعرض عن سماعه والإصغاء لكلامه لم يزدد حزنه إلا حزنا، وانقلب فرحه ترحا.
لا يشعر الإنسان بالبهجة، طبقا لفطرته، إلا إن شاركه في بهجته الناس الذين يألفهم ويحبهم.
أما أنت أيها القلب، فما لك قد ضللت الطريق، ووقعت في عشق الصور؟ كيف غضضت طرفك عن رؤية من يمد لك يده، بكل حب، ليأخذ بقلبك؟
كيف صممت سمعك عن صوت من ناداك: لبيك عبدي وسعديك؟
ألا تريد من يشارك قلبك فرحه، وصدرك ضيقه؟ ألا تريد من يؤنس روحك؟
مهما درت بطرفك في البشر باحثا عمن يروي لك شيئا من ذاك الظمأ، فلن تجد فيهم من يرضيك ويشبع حاجتك ونهمك.
ذلك أن الروح إذا ما ألفيتها جائعة عطشى فلا يعيدها إلى قرارها إلا إن ارتوت من ذاك النبع الذي فطرت منه، قال الله تعالى في وصفه خلق آدم: (ونفخت فيه من روحي).
أفلم تدرك بعد أن ليس في الكون من مؤنس للإنسان مثل أنسه بخالقه وبارئه؟
إن حرت استخترته، استجاب لك، فاختار لك، وإن ألمت بك مصيبة جأرت بالدعاء له، استجاب لك، فأبقى مصيبتك ما شاء؛ تطهيرا لك، أو أزاحها عنك؛ رأفة بحالك، وإن احتجت إليه ناداك: لبيك عبدي وسعديك، اطلب تجب وسل تعطى، وإن سعدت فهو أسعدك، وإن حزنت أزاح حزنك، وإن كربت نفس كربك.
قال الله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان).
وقال تعالى: (ادعوني أستجب لكم).
وقال تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء).ناج مولاك بقلب منكسر، بعد توبة صادقة نصوح، تندم فيها على ذنوبك علاوة على تركها، وتعزم على عدم العودة لها.
اجأر إليه، بدموعك الغزيرة، مع شهقات المذنبين، وأنات المتألمين.
تضرع بين يدي الرحمن، يزيدك من خزائنه التي لا تنفد ما ألححت بالطلب منه.
ألح في دعائك، واجعله خالصا لوجهه، سهل العبارة، موجزا.
بث له شكواك، آلامك، أفراحك، أحلامك وتطلعاتك.
كن معه، فلن تحتاج لبشر، من سماته أنه مخلوق لا خالق، مرزوق لا رازق، منقوص لا كامل، مملوك لا مالك، جاهل لا عالم، فان لا باق، ضعيف لا قوي، يحتاج إلى غيره أكثر من حاجة غيره له!
طوبى لمن عرف؛ فالتزم!
No comments:
Post a Comment